أحمد بيضون
 أحمد بيضون


«ريثما تطلُع الشمس» قصة قصيرة للكاتب أحمد بيضون

صفوت ناصف

الجمعة، 28 يونيو 2024 - 03:27 م

 مترعةٌ أيامي بنازعات الصبر؛ آخر رسائله التي وصلتني مضمخةٌ بدموع الحنين.. أيّما حنين! : (سافرتُ لأجل حبنا المحكوم عليه بالإعدام! أنتِ قمري في ديجور الدُجنة الكالحة التي تعتصر جراحات الفراق، اغفري لي خطيئتي بسفري المفاجئ.. نعمْ لم أطلعكِ على قراري وصديقي يسر لي الهروب على ذاك القارب الذي كنا نرتاد ضفافه حيث يرسو.. أتذكرين؟.. آخرُ فرقدٍ كان يلمع في السماء على جنبات شاطئ غرامياتنا وأخبرك بأنا سنسافر إلى هناك ونعبر الأثير..

 

لا يهمنا شهاب أمك التي أسميتها الحية الرقطاء أو أباك بوسيدون ملك البحار.. بحاري قد أسنت وأمواجي أصبحت راكدة فاترة.. ربّما سأظل أعوم حتى أبلغ أرض الخلاص وتراب الأمل حيثما يعشوشب لهيب بات يخبو في أحشائي..

 

هذه رسالتي الأولى ولن تكون الأخيرة.. بعدما أنقذني خفر السواحل من الغرق فوجدت نفسي مسجياً على أرض طوافة تقلني لملجأ أعالج فيه.. أنتظرُ منك كلمات تواسي غربتي في براثن غرابيل تتراقص في أحلامي الوردية وتخبرني بأني ضللتُ الطريق.. أحقا؟!)

 

ما تلبث أن تقرأ كلمات الرسالة حتى تنتحب في هسيس صوت يعاند الصمت وهي تتسلم الخطاب خلسة بدون علمٍ من أبويها، لكنها مازالت تحتفظ بآخر صورة له وأبَت أن تسدل الستار على قصة عشق في مهب الريح!

 

كان لديه صديق يعمل لدى والده تاجر الصاغة وقد امتهن الحرفة معه وترعرعا معاً حينذا قرر أبو ذاك العاشق المهاجر أن يتبنى ذاك الصديق اليتيم تنفيذها لوصية صديقه الراحل، ذاك الولد الطالح الذي آواه هذا الرجل قبل أن تضمه وتضنيه الشوارع كان الشوكة التي قصمت ظهر البعير!.. كأنه فرقان الحب يمتلك حرز الزيزفون ليقضي على جذوة بين طرفين : صديقه أو ابن الرجل الذي كفله وحبيبته التي يكن لها حبا في طي الكتمان ولا يقدر على البوح به؛ لكنه كان يغازلها بين فنية وأخرى وتفضحه مشاعره الخرساء ولاحظ الأمر صاحبه الذي تبادله تلك الفتاة المرجوَّه أرتال العشاق، أصاب العطب واليباب محل الصاغة المملوك للرجل الطيب الذي يأوي في عرينه شبلان أحدهما الابن والآخر الغريم، صرف كل قرشٍ على مرضه العضال في الوقت حينما كان يريد ابنه الزواج ممن أحب، لكن شبح الموت خيم في مقارّ ظعنه ليشرّع نافذة التيه ويعصف رياح اليأس على الابن الذي أضحى يتيماً كصاحبه؛ في مواجهة مطالب عرسه المنتظر من قصر منيف وأسنمة من هدايا باهظة؛

 

 أخذ يندب حظه التعس وقرر الهروب في هجرة غير شرعية بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من الموت غرقاً ولكنه استفاق ليشق دروب الاستلاب ويطارد نزواته بين الأجنبيات أملاً في العودة إلى من أحبها في صميم نياطه، أخذ يبعث بالخطابات إليها.. حينئذٍ كان صديقه يتلقفها ثم يسلمها إياها- فقط رسالة واحدة وهي الأولى والأخيرة، بعدها فكر صاحبه الداهية في فكرة شيطانية؛ كان ذاك الصاحب قد انخرط مع جماعة لها بيوعاً في الإجرام ليعمل كشتبنجي ويجني الكثير من الأموال من مغفلين يوهمهم بمشاريع وهمية، لكنه حبه الدفين لتلك الصبية ينمو في عروقه ويغضب شططا كلما وصلت رسائل صديقه من الخارج وينسى معروف الرجل الراحل الذي انتشله من الضياع،

كانت حيلة الأبالسة التي انطلت عليها هو أن أخبرها بأنّ من تنتظره بعث برساله الثانية المؤسفة يخبرها بأنه سيتزوج بأخرى هناك وربما سيقضي بقية حياته هناك وأرسل إليها مبلغا يسيراً كهدية لها ونصف قلادتها التي تضعها على جيدها؛ بالطبع أجهشت في البكاء ورأت خط يده يمجل في شرايينها ولكنه ذاك المزور صديقه الذي مكَر المؤامرة الكبرى لتنساه بل أن زريعته أو البيّنة كانت الحلية العائد!!

 

صدّقت ما تراءى بأم عينها ومحَت فيالق الوفاء في فضاء الولَه المكذوب وأخبرت الوالدين بأنها صائبين، فانتهز القناص الفرصة وتقدم لها؛ كل ما يغري عائلتها هو الثراء الفاحش وطائلة النفوذ، أصبح لدي الخائن محلا هائلاً الصاغة يأتيه المرتادون من كل حدب وصوب ويشارك زبانيته في الأرباح، وفي الوقت ذاته يمزق خطابات الصديق الذي يتمسك بمواثيق وعهود أضحت من سرابات ذكريات بائدة رسفها الدهر؛ حتى عاد من الخارج وسط ذهول من الحشود هندامه الأنيق وأفراد الحراسة تسيج بساط دربه بين العباد، المفاجأة - لما وجد ذاك اللقيط- كما نعته حين علم غيرته وغبطته - زوج من أحبها وأنجب منها.. ولكن كيف؟! ربما جاء متأخراً.. لكنه كان راسلها طيلة عقد ونيّف!

 

استقبله ذو البهرج الخداع بدكانه الشاسع الأركان، وحاول أن يستدرجه في صفقة تجارية ولكن مازالت الرّيبة تعتريه في أمر هذا الصاحب.. ولكن كيف يتسنى له معرفة الحقيقة وخاصة أنه سأله بعد المباركات على زيجة من أضمَر لها عشقا فائتا..

((أينَها.. زوجتك أريد أن ألقي لها السلام ولنجليك!.. فأنت مثل أخي الفاضل؟)... تعللّ بغيابهما عند حماه وسيلحقان به بوقت لاحق.

 

أراد العائد من بلاد الغربة التأكد من الأمر استدعى ساعي البريد الذي أكد له بأنه كان يحضر الخطابات لصديقه لكنه لم يستلم رداً البته، فأمره أن يتريث ريثما يحضر صاحبه لمحله الجديد لبيع الأنتيكات كان يستوردها من تجار معارفه بالخارج، ولما انبرى ذاك الصاحب الخسيس ارتعدت فرائصه وكأنه رأى عفريتا من الجان وتنحنح قبل أن يحدجه المكلوم بسؤاله إياه لماذا لم يصلني الرد؟

وكانت عيناه تنفجر وقد احموررتا بالوعيد ولكن الأخير تحجج بأن زوجته كانت قد رضخت لرغبة والديها بنسيان الهارب وانتظار نصيبها.. وكان هو من حاز فؤادها وأحبته حبا جماً في السراء والضراء!..

حينذا أكد الساعي بأن الذي يدافع عن نفسه يحاول تبرئة نفسه ورآه يمزق الرسائل إرباً... فصفعه باليد صفعة على وجه تكعكع من قوة الصدمة.. وانصرف الخائن يتمتم ولم يقاوم بل إنه مضى لحال سبيله بلا أوبه، وقد بدأ يتوجس خيفه من ظهور العائد أمام زوجته فتكتشف أمره خاصة وأن المغدور ليس متزوجاً كما أخبرها، أراد التمرد على واقعٍ بات وشيكاً يهدد استمراره مع زوجته لو اتقدت جذوة حب قد ذهبت مع غبار السنين،

على غراره كان العائد يبحث عنها كي يخبرها عن مؤامرة من غرر بها فلم يحبها يوماً ما إلا ليظفرَ بها لنفسه غنيمة لأنه يغار منه ويريد مشاطرته في حبها منذ الصبا، جرى اللقاء بمحض الصدفة بين الحبيبين على استحياء من رباط زواج محرَّم أصبح مقدساً بسبب عربيدٍ نصَّب نفسه ناسكاً، أخبرها الحقيقة ولكنها استأذنت وتجرُّ أذيال الخيبة بمغارات الضيم...

أحست بأن الأرض قد انشقت وابتلعتها عند ولوج المنزل حيثما ينتظر زوج هائج يدرك الآن معرفتها لحقيقته بمجرد رؤيتها تأنفه وتنفر منه بلا حراك لا تنبس بكلمةَ تلزمُ الصمت، حتى حان ميعاد مواجهة تأجلت لميقاتٍ وعدٍ آتٍ فتخبرُه بأنها علمت بأمر الخطابات والغيرة التي حرقته فحرقها في نيران دائرة الخديعة...

لكنها للأسف مضطرة أن تستمر من أجل الأبناء وستحرمُ بسرابيل الصبر وتتجلد ضربات سياطه الأليمه التي جعلتها تشمئز منه؛ جاءها الرد الأخير بأن استلَّ ذاك اللئيم آلةً حدباء لينفذها في وتينها.. فينبري شخصٌ من المجهول كان يراقب المشهد عن كثب ويختلس النظرة ليستقبل الطعنة الغادرة  في عنقه فترديه قتيلاً.. كان بإمكانه أن يجهز على ذاك الصديق الخائن القاتل مبكراً.. لكنَّه الوفاء لها يأبى إلا يلقى على وجهها نظرة أخيرة والشمس تدنو بين قرني الشيطان الذي أفلَ من الوجود واصطحب الفرقَد ليتوسّد الظلام!.

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 


 

مشاركة